سورة الرحمن - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه: أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، فقال: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال الحسن: يعني: النطق.
وقال الضحاك، وقتادة، وغيرهما: يعني الخير والشر. وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها.
وقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: يجريان متعاقبين بحساب مُقَنَّن لا يختلف ولا يضطرب، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، وقال تعالى: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
وعن عكرمة أنه قال: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد، ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءًا من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله: {والنجم} بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض- يعني من النبات.
وكذا قال سعيد بن جبير، والسدي، وسفيان الثوري. وقد اختاره ابن جرير رحمه الله.
وقال مجاهد: النجم الذي في السماء.
وكذا قال الحسن وقتادة. وهذا القول هو الأظهر والله أعلم؛ لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} الآية [الحج: 18].
وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يعني: العدل، كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وهكذا قال هاهنا: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي: خلق السموات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل؛ ولهذا قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي: لا تبخسوا الوزن، بل زِنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء: 182].
وقوله: {وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ} أي: كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات، لتستقر لما على وجهها من الأنام، وهم: الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم، في سائر أقطارها وأرجائها. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام: الخلق.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي: مختلفة الألوان والطعوم والروائح، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ} أفرده بالذكر لشرفه ونفعه، رطبا ويابسا. والأكمام- قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع.
وهكذا قال غير واحد من المفسرين، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود، فيكون بسرا ثم رطبا، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه.
قال ابن أبي حاتم ذُكِرَ عن عمرو بن علي الصيرفي: حدثنا أبو قتيبة، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي، عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك، فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تشقق مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تَيْنَع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أُكِل، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادًا للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر بن الخطاب من عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقوك، هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله، فإن {مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60].
وقيل: الأكمام رفاتها، وهو: الليف الذي على عنق النخلة. وهو قول الحسن وقتادة.
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} يعني: التبن.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: {الْعَصْفِ} ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس.
وكذا قال قتادة، والضحاك، وأبو مالك: عصفه: تبنه.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: {والريحان} يعني: الورق.
وقال الحسن: هو ريحانكم هذا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {والريحان} خضر الزرع.
ومعنى هذا- والله أعلم- أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف، وهو: ما على السنبلة، وريحان، وهو: الورق الملتف على ساقها.
وقيل: العصف: الورق أول ما ينبت الزرع بقلا. والريحان: الورق، يعني: إذا أدجن وانعقد فيه الحب. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة:
وَقُولا له من يُنْبِتُ الحَبَّ في الثَّرى *** فَيُصْبِحَ منه البقلُ يَهْتَزُّ رابيا
وَيُخْرجَ منْه حَبَّه في رُؤوسه *** فَفي ذاك آياتٌ لِمَنْ كَانَ واعيا
وقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأي الآلاء- يا معشر الثقلين، من الإنس والجن- تكذبان؟ قاله مجاهد، وغير واحد. ويدل عليه السياق بعده، أي: النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون: «اللهم، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب، فلك الحمد». وكان ابن عباس يقول: «لا بأيِّها يا رب». أي: لا نكذب بشيء منها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَة، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يستمعون {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.


{خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}.
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو: طرف لهبها. قاله الضحاك، عن ابن عباس. وبه يقول عكرمة، ومجاهد، والحسن، وابن زيد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} من لهب النار، من أحسنها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} من خالص النار.
وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، به.
وقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره.
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني: مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء.
وقال في الآية الأخرى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40]، وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم، وبروزها منه إلى الناس.
وقال في الآية الأخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9]. وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب، مصالح للخلق من الجن والإنس قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟.
وقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال ابن عباس: أي أرسلهما.
وقوله: {يلتقيان} قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
والمراد بقوله: {البحرين} الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53]. وقد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين: بحر السماء وبحر الأرض، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطية وابن أبْزَى.
قال ابن جرير: لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف بحر الأرض. وهذا وإن كان هكذا ليس المراد بذلك ما ذهب إليه، فإنه لا يساعده اللفظ؛ فإنه تعالى قد قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} أي: وجعل بينهما برزخا، وهو: الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه. وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.
وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك لأحدهما كفى، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ. قاله مجاهد، وقتادة، وأبو رزين، والضحاك. وروي عن علي.
وقيل: كباره وجيده. حكاه ابن جرير عن بعض السلف.
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس، وحكاه عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس. وروي مثله عن علي، ومجاهد أيضا، ومرة الهمداني.
وقيل: هو نوع من الجواهر أحمر اللون. قال السدي، عن أبي مالك، عن مسروق، عن عبد الله قال: المرجان: الخرز الأحمر. قال السدي وهو البُسَّذ بالفارسية.
وأما قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية، إنما هي من الملح دون العذب.
قال ابن عباس: ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر، فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة.
وكذا قال عكرمة، وزاد: فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة. وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها- يعني: من قطر- فهو اللؤلؤ.
إسناده صحيح، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض، امتن بها عليهم فقال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} يعني: السفن التي تجري في البحر، قال مجاهد: ما رفع قلعه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة، وقال قتادة: {المنشآت} يعني المخلوقات.
وقال غيره: المنشآت- بكسر الشين- يعني: البادئات.
{كالأعلام} أي: كالجبال في كبرها، وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، مما فيه من صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع؛ ولهذا قال تعالى {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا العرار بن سويد، عن عميرة بن سعد قال: كنت مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها، فبسط على يديه ثم قال: يقول الله عز وجل: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ}. والذي أنشأها تجري في بحر من بحوره ما قتلتُ عثمان، ولا مالأت على قتله.


{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب- تعالى وتقدس- لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله كان.
وفي الدعاء المأثور: يا حي، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
وقال الشعبي: إذا قرأت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فلا تسكت حتى تقرأ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}.
وهذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وكقوله إخبارا عن المتصدقين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]
قال ابن عباس: {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ذو العظمة والكبرياء.
ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن.
قال الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، قال: من شأنه أن يجيب داعيا، أو يعطي سائلا أو يفك عانيا، أو يشفي سقيما.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كل يوم هو يجيب داعيا، ويكشف كربا، ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا.
وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض، يحيي حيا، ويميت ميتا، ويربي صغيرا، ويفك أسيرا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحِمْصيّ، حدثنا حرير بن عثمان، عن سُوَيْد بن جبلة- هو الفزاري- قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقابا، ويعطي رغابا، ويقحم عقابا.
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغُزّي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السَّكْسكي، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني، عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: «أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي قالا حدثنا الوزير بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي- والسياق لهشام- قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}» قال: «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين».
وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة، عن هشام بن عمار، به. ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع، عن الوزير بن صَبِيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مُطرِّف، عن الشعبي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال: والصحيح الأول. يعني إسناده الأول.
قلت: وقد روي موقوفا، كما علقه البخاري بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء، فالله أعلم.
وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، قال: «يغفر ذنبا، ويكشف كربا».
ثم قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثُّمَالي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.

1 | 2 | 3